الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والخَيطُ في كلامهم عبارةٌ عن اللون، قاله القرطبيُّ، وأنشد لأبي دؤاد الإياديِّ في ذلك فقال: المتقارب: وقد تُسمِّيه العرب أيضًا الصَّديع، ومنه قولهم: انْصَدَعَ الفجْرُ؛ قال بِشْرُ بْنْ أبي خازمٍ، أو عَمْرُوا بن مَعْدِيكرِبَ: الوافر: وهذا النوع من باب التشبيه لا من الاستعارة؛ لأنَّ الاستعارة هي أن يُطْوَى فيها ذكر المشبَّه، وهنا قد ذكر وهو قوله: {مِنَ الفجر}، ونظيره قولك: رَأَيْتُ أَسَدًا مِنْ زَيْد، لو لم تَذْكُر: مِنْ زَيْدٍ لكان استعارةٌ، ولكنَّ التشبيه هنا أبلغُ؛ لأنَّ الاستعارة لابد فيها من دلالةٍ حاليةٍ، وهنا ليس ثمَّ دلالةٌ، ولذلك مَكَثَ بعضُ الصحابة يَحْمِلَ ذلك على الحقيقة مدةً، حتَّى نزل: {مِنَ الفَجْرِ} فتركت الاستعارة، وإن كانت أبلغ لما ذكرنا.قوله: {إلى اللَّيلِ} في هذا الجارِّ وجهان:أحدهما: أنه متعلِّق بالإتما، فهو غايةٌ له.والثاني: أنه في محلِّ نصب على الحال من الصيام، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائنًا إلى اللَّيل، و{إلَى} إذا كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها، لم يدخل فيه، والآية من هذا القبيل.قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد} جملةٌ حاليةٌ من فاعل {تُبَاشِرُوهُنَّ}، والمعنى: {لاَ تُبَاشِرُوهُنَّ}، وقد نَوَيْتُم الاعتكافَ في المسجد، وليس المراد النهي عن مباشرتهنَّ في المسجد بقيد الاعتكاف؛ لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضًا.والعُكُوفُ: الإقامة والملازمة له وهو في الشَّرع: لزوم المَسْجِد لطَاعَةِ الله تعالى فيه، يقال: عَكَفَ بالفتح يَعْكِفُ بالضم والكسر، وقد قرئ: {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ} [الأعراف: 138] بالوجهين، وقال الفَرَزْدَقُ: الطويل: وقال الطِّرمَّاحُ: الطويل: ويقال: الافتعال منه في الخير، والانفعال في الشَّرِّ، وأمَّا الاعتكاف في الشرع.فهو إقامة مخصوصةٌ بشرائط، والكلام فيه بالنسبة إلى الحقيقة الشرعية كالكلام في الصلاة، وقرأ قتادة: {عَكِفُونَ} كأنه يقال: عَاكِفٌ وعَكِفٌ؛ نحو: بَارٌّ وَبَرٌّ ورَابٌّ وَرَبٌّ، وقرأ الأعمش: {في المَسْجِدِ} بالإفراد؛ كأنه يريد الجنس.قوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} مبتدأٌ وخبرٌ، واسمُ الإشارة أخبر عنه بجمع، فلا جائز أن يشار به إلى ما نهي عنه في الاعتكاف، لأنه شيءٌ واحدٌ، بل هو إشارةٌ إلى ما تضمَّنته آية الصيام من أوَّلها إلى هنا، وآية الصيام قد تضمَّنت عدة أوامر، والأمر بالشَّيءِ نَهِيٌّ عن ضدِّه، فبهذا الاعتبار كانت عدَّة مناهٍ، ثم جاء آخرها صريح النهي، وهو: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ} فأطلق على الكل حُدُودًا؛ تغليبًا للمنطوق به، واعتبارًا بتلك المناهي الَّتي تضمَّنتها الأوامر، فقيل فيها حدودٌ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل؛ لأنَّ المأمور به لا يقال فيه {فَلاَ تَقْرَبُوهَا}.وقال أبو مسلم الأصفهانيُّ: {لاَ تَقْرَبُوهَا} أي: لاَ تَتَعَرَّضُوا لها بالتغيير؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34].قال أبو البقاء: دُخُولُ الفاء هنا عاطفةٌ على شيء محذوفٍ، تقديره: تَنَبَّهُوا فَلاَ تَقْرَبُوهَا، ولا يجوز في هذه الفاء أن تكون زائدةً كالتي في قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] على أحد القولين؛ لأنه كان ينبغي أن ينتصب {حُدُودُ اللَّهِ} على الاشتغال؛ لأنه الفصيح فيما وقع قبل أمر أو نهيٍ، نحو: زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، وعَمْرًا فَلاَ تُهنْهُ فلمَّا أجمعت القرَّاء هنا على الرفع، علمنا أنَّ هذه الجملة التي هي {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} منقطعةٌ عمَّا قبلها، وإلا يلزم وجود غير الفصيح في القرآن.والحُدُودُ: جمع حدٍّ، وهو المنع، ومنه قيل للبوَّابِ: حدَّاد، لأنَّه يمنع من العبور قال اللَّيثُ رحمه الله تعالى: وحَدُّ الشَيْءِ منتهاه ومنقطعه، ولهذا يقال: الحَدُّ مانعٌ جامِعٌ، أي: يمنع غير المحدودِ الدُّخُول في المَحْدُودِ.وقال الأزهريُّ ومنه يقال للمحروم، محدودٌ؛ لأنَّه ممنوعٌ عن ارِّزق، وحدود الله ما يمنع مخالفتها، وسمِّي الحديد حديدًا؛ لما فيه من المنع، وكذلك: إحداد المرأة؛ لأنَّها تمتنع من الزينة.والنَّهيُّ عن القُرْبَانِ أَبْلَغُ من النَّهْيِ عن الالتباس بالشيء؛ فلذلك جاءت الآية الكريمة.قوله: {كذلك يُبَيِّنُ الله} الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتًا لمصدرٍ محذوفٍ: أي: بيانًا مثل هذا البيان.فإنَّه لما بيَّن أحكام الصَّوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بيانًا شافيًا وافيًا- قال بعده: {كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ} أي مثل هذا البيان الوافي الواضح.أو حالًا من المصدر المحذوف؛ كما هو مذهب سيبويه.قال أبو مُسْلِم: أراد بالآيات الفرائض الَّتي بيَّنها؛ كما قال سبحانه: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور: 1] ثم فسَّر الآيات بقوله: {الزانية والزاني} [النور: 2] إلى سائر ما بيَّنه من أحكام الزِّنا، فكأنه تعالى قال: كذلك يبيِّن اللَّهُ آياتِهِ للنَّاس ما شَرَعَه لَهُمْ ليتَّقُوه، فَيَنْجُوا مِنْ عَذَاب الله. اهـ. باختصار.
وخَانَ السَّيفُ إذا نَبَا عن الضَّرْبَةِ، وخَانَهُ الدَّهْرُ، إذا تغيَّر حاله إلى الشَّرِّ، وخَانَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، إذا لَمْ يُؤَدِّ الأمانَةَ، ونَاقِضُ العَهْدِ خائِنٌ، إذا لم يف، ومنه قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: 58] والمدين خائنٌ؛ لأنَّه لم يف بما يليقُ بدينه؛ ومنه قوله تعالى: {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] وقال تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} [الأنفال: 71] فسُمِّيت المعصية بالخيانة.وقال الزمخشريُّ: والخْتِيَانُ: من الخيانة؛ كالاكْتِسَاب من الكَسْبِ، فيه زيادةٌ وشِدَّة؛ يعني من حيث إنَّ الزيادة في اللفظ تُنْبِئ عن زيادةٍ في المعنى، كما قدَمَهُ في قوله تعالى: {الرحمن الرَّحِيمِ} وقيل هنا: تختانُونَ أَنْفُسَكُمْ، أي: تتعهَّدُونها بإتيان النِّسَاء، وهذا يكون بمعنى التَّخْويل، يقال: تَخَوَّنَهُ وتَخَوَّلَهُ بالنون واللامِ، بمعنى تَعَهَّدَهُ، إلا أنَّ النون بدلٌ من اللاَّم؛ لأنه باللام أشهر. اهـ.قال القرطبيُّ: معنى {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي: يستأمر بعضكم بعضًا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النَّوم في ليالي الصَّوم؛ كقوله تعالى: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] أي: يقتل بعضكم بعضًا، ويحتمل أن يريد به كلَّ واحد منهم في نفسه؛ بأنه يخونها وسمَّاه خائنًا لنفسه من حث كان ضرره عائدًا عليه. اهـ.
{ولتكملوا} عدة أنواع الغاية بجذبات {يريد الله بكم اليسر} {ولتكبروا الله} ولتعظموه {على ما هداكم} إلى عالم الوصال بتجلي صفات الجمال {ولعلكم تشكرون} نعمة الوصال بتنزيه ذي الجلال عن إدراك عقول أهل الكمال وإحاطة الوهم والخيال.قوله سبحانه: {أحل لكم ليلة الصيام} اعلم أن في الإنسان تلونًا في الأحوال. فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في ضياء نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية وهو حالة السكر، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردودًا إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذه حالة الصحو، فخصه الله تعالى بنهار كشف الأستار وطلوع شموس الأسرار ليصوموا فيه عما سواه، وبليلة إسبال أستار الرحمة ليسكنوا فيها ويستريحوا بها كما منّ الله تعالى بقوله: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدًا} [القصص: 72] الآيتين. ومعنى الرفث إلى النساء التمتع بالحظوظ الدنيوية التي تتصرف النفس فيها تصرف الرجال في النساء {هن لباس لكم} أي الصفات والحظوظ الإنسانية ستر لكم يحميكم عن حرارة شموس الجلال لكيلا تحرقكم سطوات التجلي {وأنتم لباس لهن} تسترون معايب الدنيا بالأموال الصالحة واستعمال الأموال على قوانين الشرع والعقل «نعم المال الصالح للرجل الصالح» {فالآن باشروهن} بقدر الحاجة الضرورية {وابتغوا} بقوة هذه المباشرة {ما كتب الله لكم} من المقامات العلية {وكلوا واشربوا} في ليالي الصحو {حتى يتبين لكم} آثار أنوار المحو فالأحوال تنقسم إلى بسط وقبض، وزيادة ونقص، وجذب وحجب، وجمع وفرق، وأخذ ورد، وكشف وستر، وسكر وصحو، وإثبات ومحو، وتمكين وتكوين، كما قيل: {في المساجد} أي في مقامات القربة والأنس. وفيه إشارة إلى أنه يجب أن يكون الاشتغال بالضروريات من حيث الصورة وتكون الأسرار والأرواح مع الحق، وهذا مقام أهل التمكين {فلا تقربوها} بالخروج عنها يا أهل الكشوف والعكوف وبالدخول فيها يا أهل الكسوف والخسوف حسبي الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير. اهـ.
|